عن التعليم الجامعي

التعليم المضحك

أعتقد ان التعليم التقليدي اليوم يمثل كارثة علينا وعلى آبنائنا، فهو سلعة غالية الثمن (للغاية) ويقودها الكثيرين من اصحاب الأفواه الكبيرة التي لا تصمت وتأتي بنتاجات موحدة كعلب الطماطم الصناعية بلا طعم حقيقي ولكن برائحة نفّاذة. خصوصًا في تخصصات تكنولوجيا المعلومات، كل مرة أفكر فيها بإنك تحتاج في أفضل الحالات لدفع أكثر من ١٥٠ دينار للمادة الواحدة (٢٠ الف تقريبا) لكي تجلس في منزلك وتستمتع بقصص عشوائية وكلام كثير بلا فائدة حقيقية. وللإمانة دائمًا ما أنظر للجامعات على انها مستشفيات إستشارية بلا أطباء تحاول علاج مرضى بلا أمراض.

منذ خمس سنوات كتبت مقالًا راج كثيرًا في إحدى مواقع النقاش يتحدث عن أن الإنسان أعقد من ان تحكمه عقلية متحجرة، او أن يتم إدخاله في قالب تم إعداده منذ عشرات السنين، هو أعقد من “مناهج” مرسومة لتواكب عصور الحرب الباردة. عندما تفكر فيها جيدًا، تجد أن نتفلكس والمشاهدة عبر الطلب قد قضت على التلفاز، وأن سبوتيفاي وانغامي قضت على اشرطة الكاسيت والدفيدي، وأن التعليم المخصص يقضي على التعليم التقليدي، هل فكرت لماذا ؟

لإن الإنسان اعقد من أن تحكمه بقناة تلفزيونية ترغمك على مشاهدة برامج واعلانات بدون قدرة على تخصيصها مع تفكيرك ونفسك، ولا أن يشتري شريط واحد بثمن باهظ ليستمع لإغنية واحدًا، طبيعي جدًا ان يكون ذوقه حمو بيكا مثلًا، ولا يمكنك عزيزي أن ترغمه على غير ذلك (ولكن يمكنك ان تنصحه وتفتح له مجال للتفكير وتغيير رأيه عبر تبيان ان حمو بيكا ومهرجاناته معفنة مثلاً). صدقني، لا تحتاج لدخول تخصص ذكاء إصطناعي بمبلغ وقدره ( بعد ان يتم اقناعك من خلال الإطباء الإستشاريين) لكي تستطيع بناء أنظمة حقيقية تجعل من يراها يقول WoW، يمكنك تعلم ذلك بنفسك ومن خلال أشخاص أكثر تواضعًا بكثير من خريج برطانيا وامركا.

ولن تحتاج لمتابعة مساق X الذي يقنعك من يدرسه انه بغيابك عن هذا المساق ستفشل،لانه صدقني يمكنك بدونه ان تقوم بتطوير نظام معين يتسخدمه ملايين من أبناء بلدك وقام بحل مشكلة حقيقية لم ولن يستطيع هذا المدرس حتى فهمها (لإنه في هالة الوهم بإنه ختم العلم وعليه ان يعلم الآن). لا أدري ما هي مشكلة الناس، ولكن شخصيًا، اعتقد اننا على اعتاب كارثة تعليمية كبرى ( لإننا لم ناخذ خيرات ومهارات الغرب ولم نبتكر شيئ يخصنا، بل. أخذنا أسوء ما في العالمين).

وكل مرة اجد عقبة أمامي، أذكر نفسي جيدًا بعلماء المسلمين الذي تجد الواحد منهم يفهم ويكتب عن الكيمياء والفيزياء والحكمة والأدب وغيره، لم يكن يضع هالة التخصص امامه، ولم ينتظر جامعة القيروان لتفتح لكي يدرس فيها تخصص علم النباتات، ولم يستخدم حصان ومجرار ليحمل حقيبة كتبه.

_وزير التعليم العالي: لم يعد مقبولا أن يقوم عضو هيئة تدريس بالتواصل مع الطلبة من خلال تطبيق الواتساب مثلاً أو عرض ملفات (PDF) كمحاضرة

المحزن المبكي في الموضوع أن هذا الأسلوب كان ولا زال يمثل جوهرة التعليم الجامعي سواء كان أونلاين أو اوفلاين (بلا تعميمات)، هو لن يعطيك السلايدات ويقول لك إبحث ونمي عقلك يا طالب وستكون أسئلة الأمتحان أسئلة نقدية تحرك عقلك، بل أني اذكر ان بعض المدرسين يجعل من سؤال الطالب اضحوكة او نكتة لتضحك عليه الشعبة بإكملها، مع ان سؤال هذا الطالب يكشف مشكلة عميقة في توصيل المعلومة من قبل المدرس. حتى ان عقيلتنا العربية تجعل من هذا الأمر ميزة للدكتور نفسه، فتجد على جروبات الخريجين كلمات مثل ( هههه الله يرحم ايام المدرس الفلاني ما حد كان يسأل الإ ويتبهدل) وكانها اصبحت ميزة حسنة لصالح هذا المدرس.

تجد كليات من عدة طوابق يتم إغلاقها في وجوه الطلبة من العصر، ويلا يا طالب روح على بيتك عشان تقعدلك ساعتين زمن بالمواصلات تفكر في خيبتك بدلًا من أن تفكر في ما ينفع هذه الامة ضمن مباني الكلية وداخل مختبراتها (التي ستكون سعيد الحظ لو جلست ساعة واحدة بدون أن يأتي رئيس المختبر حضرة المثقف ويطردك). وأن وجدت مختبر مفتوح للبحث والتعلم فسيكون نتاجات من مدرسين فرديين وبتحركات فردية عظيمة أثرت على عقول العديد من الطلبة للإفضل، لمسات بسيطة كان يقوم بها مدرس او إثنين بالجامعة غيرت حياة العديد من الطلبة للإفضل (حرفيًا) فما بالك لو كانت ضمن تحركات مؤسساتية منظمة ؟

أذكر ان أحد المدرسين كان يقول لنا أن صوته عليه copy right لذلك لا يمكنك تسجيل ما يقول، وآخر كان يحلف يمين الأ يتم تسجيل المحاضرة الـonline عقابًا للغائبين والمتأخرين (وهنا بطل السبب، وهو التعلم والإفادة، وأصبح التعجيز والديكتاتورية وحب السلطوية الدافع المحرك) التلقين وعدم التنوير يدمر هذا الجيل الغشيم، التبصيم وحلفان اليمين على انه المصدر الوحيد للمعلومة تجعل من الجامعات منظومة لأداء واجبك بالغياب عن المنزل من ٦ صباحًا حتى ٣ عصرًا، عوضًا عن جعل عقلك منظومة مشتعلة من الأفكار الإبداعية التي تستكشف مستقبلًا أفضل.

ولا اخفي عليكم أن المدارس كانت أسوء، فخلال ١٢ سنة أمضيتها في مدارس الحكومة الأقل حظًا (جيوب الفقر) لا يخطر في بالي سوى ٣ مدرسين غيروا وحسنوا من طريقة تفكير الصف بإكمله، ومثلوا قدوة حسنة مليئة بالعلم والمعلومات، على الرغم من أن بيئة مدارس الحكومة من أسوء ما يكون ( طوال ٥ سنوات كان مكتوب فوق الحيط تاع درجي جملة بالدهان الرشاش “كازية المناصير ترحب بكم”) وفعلًا المدرسة لم تكن أكثر من محطة وقود لملئ عقولنا بالاشياء الغريبة والمكررة.

شخصيًا لست مستعدًا لإبقاء أبنائي في هكذا منظومة تعليمية سيئة، ولا أعلم ما البديل…

كُتب في 21/11/2020